• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

من أخطاء الآباء والأبناء

من أخطاء الآباء والأبناء
◄قد يلقي البعض منّا مسؤولية ذلك على الآباء وحدهم دون الأبناء، على اعتبار أنّهم الأكثر تجربة والأغنى خبرة في الحياة، ولأنّهم يُفترَض فيهم أن يكونوا المسامحين، وذوي القلوب الكبيرة، والأرجح عقلاً. وبالرغم من تقديرنا لذلك، فإنّنا لا نعفي الأبناء عن إثارة حفائظ آبائهم، خاصّة إذا عرفوا أنّ هناك أموراً غير لائقة لا يصحّ أن يؤتوا بها، فيأتوا بها، أو يتعمّدون أحياناً فعلها. ولأنّ مسؤولية الآباء أكبر، سنقف عند بعض الأخطاء التربوية التي لو شُخَّصت بشكل جيِّد، وتمّ التعامل معها بحكمة، لقلّصت دائرة الاصطدام بين الآباء وبين أبنائهم، ولنبدأ باستخدام العُنف..   1- العنف اللّفظي واليدوي: فهناك بعض الآباء يعنِّفون أبناءهم أسوة بآبائهم الذين كانوا يعاملونهم بنفس المعاملة، وكأنّهم ورثوا منهم العُنف والقسوة والتسلّط. ولا نريد أن ندخل في تحليل ذلك ودراسة مدى تأثير الأساليب التربوية المستخدمة في البيت على مستقبل التعامل الأُسري لدى الأبناء. لكنّنا نقول للآباء الذين يتعاملون بهذه الطريقة الجارحة: تذكّروا مدى انزعاجكم ونفوركم من التعامل الخشن الذي كان يعاملكم به آباؤكم، فكيف يرتضي أب عاشَ التعامل القاسي، أن يعامل ابنه بنفس المعاملة؟ وهل من التربية في شيء أن يصرخ الأب دائماً، ويضرب أولاده لأدنى خطأ ولأتفه سبب؟ ويُحدِث جوّاً من الرّعب والتوتّر في البيت وكأنّه جلّاد صغير؟! لقد دخل أحد الولاة على أحد الخلفاء، فرآه يُلاعب صبيّاً له، وكان الصبيّ يمتطي ظَهْر الخليفة، فتعجّب الوالي من ذلك، وأثار استغرابه واستهجانه، ولم يكتمها في نفسه، فقال للخليفة: كيفَ تفعل ذلك يا مولاي؟! فسأله الخليفة، وقد عرفَ من سؤاله أنّه لا يتعامل مع صبيانه بهذه الطريقة: وكيفَ تُعامل أولادك يا ترى؟! فقال الوالي معتدّاً بأسلوبه الصارم: إذا دخلتُ البيت، جلسَ القائم وسكت الناطق، فقال له الخليفة: إنّك لا تصلح والياً للرعيّة، لأنّك بذلك تخنق أنفاسها. ولو جرّب أحد الآباء أن يُسجِّل لقطات من حالات انفعاله الشديد وغضبه المُزبد المُرعد في شريط فيديو، وعرضه في لحظة صفاء، لخجل من نفسه، ولأنكر ذاك الذي يراهُ أمامه، وقد فقد السيطرة على انفعالاته. فَلِمَ نعمل ما نستحي منه، أو يدعونا إلى الاعتذار مع ما في الاعتذار من حالة إذلال للنفس؟! وأمّا اعتبار ذلك ضبطاً عائلياً أو حسماً وحزماً حتى لا يفلت الزمان، فإنّ العُنف قد يُنتج أسرة خاضعة مطيعة منصاعة مذعنة، لكنّها الطاعة بالإكراه، والانصياع الجبري الذي ما أن يُرفع القيد عنه حتى يتفجّر غضباً واستياءً وكراهية. أمّا إذا استمرّ، فإنّه سيخلِّف عقداً نفسية ربّما يصعب علاجها. وهل ضاقت بنا السّبل – كآباء – فلم نجد أمامنا من أسلوب للضّبط غير العصا والصّفعة والشتيمة وربّما البصقة بوجه الابن أو البنت؟! يقول الحكماء: "آخر الدواء الكيّ". فَلِمَ يكون أوّل دوائنا الكيّ؟! لماذا لا نُجرِّب الخطوات التي تسبقه، فلعلّها تأتي بالنتائج المرجوّة؟ لماذا الإقدام على العُنف أوّلاً؟ هل استنفدنا أساليب الزّجر كلّها؟ فرُبّ نظرة ذات مغزى منعت من ارتكاب أخطاء لاحقة. ورُبّ كلمة وعظ مؤنِّبة كفّت عن تجاوزات مستقبلية. لماذا ندفع أبناءنا وبناتنا إلى أن يكونوا عصبيين وانفعاليين ومشدودي الأعصاب دائماً، بتعاملنا معهم بطريقةٍ جارحةٍ لأحاسيسهم؟ لماذا نجني عليهم بأن يكونوا حادِّي المزاج مع الآخرين بالتقاط ذلك منّا ودون إرادة منهم؟ وما يُدرينا فربّما انعكس ذلك على تعاملهم مع أبنائهم في المستقبل. فهل قدّرنا النتائج الوخيمة لذلك كلّه؟   2- الكلمة الأُولى والأخيرة: غيرَ أنّ التسلّط الأبوي قد يأخذ شكلاً آخر، في فرض كلمة الأب لتكون الأولى والأخيرة بلا أخذ ولا ردّ ولا مناقشة ولا اعتبار لآراء الأسرة. وربّما برز ذلك من خلال فرض مزاج الأب وشهوته على أسرته، فهو يريد الطّعام الذي يشتهيه حتى ولو لم يحبّه أولاده. وقد ورد في الحديث: "ملعونٌ مَن أكلَ عياله بشهوتِه، ولم يأكل بشهوةِ عياله". فالأوّل أناني والثاني مُتفانٍ، ومَن يأكل بشهيّة أهله وما يُفضِّلون من أطعمة، فإنّه يزرع في نفوسهم حبّاً واحتراماً له، وإذا لم يُقدّر في الوقت الحاضر، فإنّه سيترك تأثيره عليهم في المستقبل في أن لا يكونوا هم أنفسهم أنانيين. وهناك من الآباء مَن يزعق ويوبِّخ ويسبّ ويضرب إذا أقلق الأولاد راحته في نومه أو جلوسه أو مطالعته، فيما هو لا يأبه لراحة عياله ولا يقيم لها وزناً، فكأنّهم عبيد مأمورون لا حقّ لهم في الاستمتاع بحرِّيتهم في بيتهم.   3- إزدواجيّة الشّعار والممارسة: ومن الأخطاء الفادحة التي يرتكبها الآباء وتؤثِّر سلبياً على الأبناء، الازدواجية بين شعاراتهم وبين سلوكهم، فالإبن أو البنت ينظران لوالديهما على أنّهما قدوتهما في الحياة، فإذا ما رأوا أنّهما يمارسان الأمور المنهيّ عنها من قِبَلهما، فإنّ ردّة فعل ذلك ستكون عنيفة، ومن نتائجها عدم إطاعة الوالدين أو الامتثال لأوامرهما مستقبلاً. وإلّا كيف يمكن لأب مدخِّن يوصي ابنه بعدم التدخين؟ وحتى لو كان يدخِّن سرّاً، أما يمكن أن يضبطه ابنه – ذات يوم – متلبِّساً بالتدخين، فيسقط في نظره؟!   4- تضخيم أخطاء الأبناء: ومن أخطاء الآباء، تضخيم أخطاء الأبناء، واعتبار الصغيرة كبيرة، وكأنّ الخطأ الذي يرتكبه الإبن أو البنت لا يُغتفر، أو لا يمكن إصلاحه، حتى أنّ البعض من الآباء أو الأُمّهات، ونتيجة لصبرهم المحدود والنافد سريعاً، يشتكون من بعض تصرّفات أبنائهم بالقول: لقد تغيّروا.. لم يعودوا يطيعوننا.. هم الآن غيرهم بالأمس.. لا جدوى من صلاحهم، في حين أنّ بالإمكان معالجة الكثير من تلك التي تُسمّى مشكلات بكثير من المحبّة والتفاهم والحكمة والصّبر. يقول الإمام عليّ بن أبي طالب (ع): "إذا عاتبتَ الحَدِث – وهو الشاب الصغير – فاترك موضعاً من ذنبه، لئلّا يحمله الإحراج على المكابرة".   5- ما زالوا صغاراً لا يفهمون: ومن أخطائهم أيضاً، أنّهم يتعاملون مع أبنائهم وبناتهم كأطفال صغار لم يشبّوا عن الطوق، ولم يبلغوا الحلم، وما زالوا دون سنّ الرُّشد، ممّا يُبرِّر لهم فرض وصايتهم عليهم حتى وهم كبار، الأمر الذي يخلق حالة من النفور والنرفزة عند الشبّان والشابّات الذين يتطلّعون إلى تعامل فيه الكثير من الرّحمة والتقدير والاحترام لشخصياتهم التي غادرت دنيا الصغار إلى دنيا الكبار. فما زال الكثير من الآباء والأُمّهات حتى بعد بلوغ أبنائهم وبناتهم سنّ الشباب، يوصونهم عندما يخرجون إلى معاهدهم أو أماكن عملهم، أن ينتبهوا لئلّا تدهسهم السيارة، وإلى غير ذلك من الوصايا التي كانت صالحة في الطفولة ولم تُعد مُناسِبَة بعدما اعتاد الشاب أو الشابة على مراقبة الطريق ومعرفة الكثير من مشاكلها.   6- وراثة المهنة أو الحرفة: ومن الأخطاء أيضاً أن نفرض على أبنائنا صيغة معيّنة من العمل أو المهنة نحبّها ولا يحبّونها، ذلك أنّ الشاب أو الشابّة شخصية مستقلّة لها رأيها وذوقها ورغبتها في عملٍ معيّن وكراهيّتها لعمل آخر، فأن تفرض على ابنك نمطاً حياتياً أو عملياً معيّناً، كأن يكون تاجراً مثلك أو طبيباً أو محامياً أو مهندساً أو أديباً، يعني أنّك تريدهُ نسخة طبق الأصل منك. والحال أنّه يريد أن يكون نسخة أصلية من نفسه، أي أن يعيش أصالة شخصيّته، وللوالدين الحقّ في أن يناقشاه في اختياره، وليس لهما أن يجبراه على خيار معيّن.   7- تدخّلات.. تدخّلات! وهذا الخطأ الناتج عن التدخّل السافر في كلِّ ما يمتّ للأبناء والبنات بصلة، يجرّ في العادة إلى أخطاء مُماثلة، تدخل كلّها تحت عنوان التدخّل في الشؤون الخاصّة للشاب أو الشابّة، وسنفرِّق لاحقاً بين التدخّل وبين التشاور، وبينه وبين الرعاية. فالشبّان والشابّات عموماً يتضايقون كثيراً من التدخّلات المباشرة التي يقحم الأب والأُم فيها نفسيهما إقحاماً مُخلّاً ومُسيئاً للعلاقة مع أبنائهما. فالتجسّس على الأبناء والبنات يُعقِّد العلاقة ويهدم جسور الثِّقة والتواصل، ويدفع إلى مزيد من التكتّم والانغلاق حتى في الأُمور التي لا تستدعي ذلك. فكما أنّنا – كآباء – لا نرغب في أن يتجسّس علينا أحد، فكذلك الأبناء، والنّهي في الآية الكريمة (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات/ 12)، كما هو واضح عامٌّ وشامل، وسنميِّز لاحقاً بين (التجسّس) وبين (المراقبة). وقد يصل التدخّل أحياناً في الزّواج وإجبار البنت أو الابن على قبول شريك حياة لا يهويانه، وهذا ممّا يزيد في الطِّين بلّة، وقد يقدمان على أعمال مُنافية للعُرف، وقد يرضخان، فيعيشان النكد والخصومات المستمرّة، وقد يبلغ الأمر درجة الطّلاق وإلى ما لا تُحمد عُقباه. عن أبي يعفور، عن أبي عبدالله جعفر الصادق (ع)، قال: قلتُ له: إنِّي أريد أن أتزوّج إمرأة، وإنّ أبوَيّ أرادا غيرها. قال: "تزوّج التي هويت ودَع التي يهوى أبواك". ذلك أنّ الذي يريد أن يتزوّج هو الإبن أو البنت، وليس الأب أو الأُم، اللّذين لا يملكان في ذلك سوى حق المشورة والنصيحة.   8- التمييز العاطفي: ومن الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها الوالدان، التمييز العاطفي والمادِّي بين الأبناء أنفسهم، أو بين الأبناء وبين البنات، الأمر الذي يخلق فجوة نفسية بين الذين يقع عليهم التمييز وبين المميّزين، وبين الذين يشعرون بحيف التمييز وبين الوالدين. فقد يخصّ الأبوان أحد الأبناء بالعطف والمحبّة والهدايا والإشادة بصفاته ونشاطاته، ويهملون الآخرين أو لا يوزِّعون ذلك بالتساوي بينهم. ولقد نظر النّبي (ص) إلى رجلٍ له إبنان، فرآه يُقبِّل أحدهما ويترك الآخر، فقال النّبي (ص): "فهلّا ساويتَ بينهما"؟! فإذا كانت القُبلة لأحد الأبناء تُشعِر الآخر بالتمييز، فما بالكَ بالامتيازات التي تُمنح لأحدهما ويُحرَم الثاني منها؟ والمسألة في خصوص الفتيات أعقد، لأنّهنّ أرقَ مشاعر وأرهف إحساساً. يقول النبي (ص): "ساووا بين أولادكم في العطيّةِ، فلو كنتُ مفضِّلاً أحداً لفضّلتُ النِّساء". وهذا ليس من باب التمييز، بل من باب التقديم المعنوي وإشعار الجنس الناعم بلُطف الإسلام وتقديره للمرأة، كونها مخلوقاً عاطفياً مرهف الإحساس. وتجدرنا الإشارة إلى أنّ هذه الأخطاء – وغيرها كثير لا يسمح المجال لذكره – قد تؤدِّي إلى الانكماش والعزلة والانطواء كنتيجة سلبيّة، إذا لم تكن تؤدِّي إلى النزاع والاصطدام والشِّجار.   من أخطاء الأبناء: أخطاء الأبناء لا تُبرّر – دائماً – على أنّها صادرة من فتيان أو فتيات لا يزالون في طور التجربة، فبعض أخطاء الأبناء متعمّد، وبعضها صادر عن غفلة وجهل، وبعضها ردود أفعال. لكنّنا لا يمكن أن نُلقي الكُرة دائماً في ملعب الأبوين واعتبارهما المحرِّضين أو السّبب فيما يحصل من خلافات بينيّة، فللآباء أخطاؤهم أيضاً، ومنها:   1- الرّفض لمجرّد الرّفض: هناك رفض غير مُبرّر، أو غير مُقنع لبعض أُطروحات الوالدين أو اقتراحاتهم أو تعليماتهم أو نصائحهم وإرشاداتهم، واعتبار كلّ ما يصدر عنهما يمسّ حرِّيّة واستقلال وشخصيّة الشاب أو الفتاة، حتى ولو لم يكن الأمر كذلك، وكما توهمهم تصوّراتهم. إنّ الرفض مطلوب لما هو قبيح وسلبي ومستنكَر وخارج عن المتعارف، كما أنّ الاستجابة مطلوبة لما هو عقلاني ومقبول وطيِّب شرعاً وعُرفاً وينطوي على مصلحة، أمّا لمجرّد شعوري أنِّي كبرتُ ولم أعد أتقبّل الأوامر والنّواهي من أيِّ أحد حتى ولو كانا والديَّ، وحتى لو كان ما يأمراني به أو ينهياني عنه هو عين المصلحة، فهو خلال المنطق المعقول، خاصّة وأنّني يجب أن أقدِّر لهما حرصهما وحبّهما وخوفهما عليَّ، حتى ولو بلغتُ من العمر أضعاف عمري، لأنّ ذلك نابع من تقدير لمكانتي الأثيرة عندهم، وهو ما يدعو إلى الاحترام والتقدير لا الاستهجان والاستنكاف.   2- التعالي على الأبوين: كوننا شبّاناً وفتيات خُلِقنا لزمان غير زمان أبوينا، أو أنّنا نتعلّم ونعلم أشياء لم يتعلّمها أبوانا، لا يُبرِّر لنا البتّة أن نتعالى بأنوفنا عليهما، كما لو كنّا ننظر لشخصين متخلِّفين أو جاهلين أو أمِّيين، فتجربة حياتهما – بالتأكيد – أغنى من تجاربنا، ووعيهما للأمور أنضج من وعينا، وبالتالي فاحترامهما احترام لأوّل معلِّمين في حياتنا، ألسنا نحترم مُعلِّمنا في الإبتدائية أو المتوسِّطة أو الثانوية، حتّى عد تخرّجنا ومزاولتنا لاختصاصنا، يكفينا أنّ والدينا ينطلقان حبّ مخلص، ونصيحة صافية نزيهة، وتعليم بلا مُقابِل، فهل تتعالى على مُعلِّم الابتدائية إذا أصبحتَ مُدرِّساً في الثانويّة، أم أنّك تعتبرهُ أساسكَ الذي بنيتَ عليه بناءَك اللّاحق؟!   3- التضجّر والتأفّف: في الحديث الشريف، لو أنّ الله تعالى وجد كلمة أدنى من (الأُفِّ) لاستعملها حتّى لا يخدش الأبناء مشاعر الآباء، ولمّا لم يستعمل غيرها، فإنّّه يُحذِّرنا من أقلَ أو أدنى درجات الإساءة لوالدينا حتّى ولو على مستوى التضجّر والتأفّف من كلمةٍ يُطلقانها ولم تُعجبنا، أو نصيحة يسديانها ونراها ثقيلة، أو موقف يقفانه ونحسب أنّه في الضدِّ من مصلحتنا، أو أمر أو طلب يطلبانه فلا نستجيب له. إنّ العبوس بوجهيهما، والنفور من طلباتهما، وإشاحة الوجه عنهما، وصفق الباب وراءنا، أو الخروج من البيت دون استئذانهما أو إخبارهما إلى أين أنا ذاهِب، أو تعنيفهما عند سؤالي: لماذا تأخّرت؟ أو أين كنت؟ وما إلى ذلك، يجرح مشاعرهما، وقد تذهب إلى غرفتك لتنام ملء جفونك، أو تنشغل بشيءٍ ما، لكنّهما يبقيان تحت وطأة الأسف الذي خلّفته كلماتك الجارحة، أو تأفّفاتك المتذمِّرة البرمة الساخطة، فكيف يهنأ لك نوم، وكيف يمتلئ جفنك بالرّقاد وقد أغضبتَ أو زعجتَ أو جرحتَ إحساس والديك؟!   4- آخر مَن يَعْلَم! هل يصحَ أن يُفاجأ والدي بتقرير الدراسة الذي يتحدّث عن مشاكل أو أخطاء ارتكبتها في المدرسة؟ هل من الصحيح أن تتطوّر مشكلة ما ولا يعلم بها والداي إلّا بعد أن تطرق الشرطة باب بيتنا لتقتاد أبي مخفوراً؟! بل حتّى في الأمور الإيجابية، هل يُعقَل أن أسافر من دون علم والديَّ اللّذَين سيبقيان قلقين طوال مدّة سفري؟ وهل أشارك أحد أصدقائي في عملٍ تجاريّ أو غير تجاريّ ولا يعلم أبي إلّا من الجيران أو بعض الأصدقاء؟! صحيح أنِّي حرٌّ في اختياراتي وقراراتي، ولكنّ اطلاع والديَّ والاستئناس برأيهما لن يُكلِّفني شيئاً، خاصّة إذا كان من النوع الذي يُبارك لي عملي ويسعد بسعادتي، وأكثر الآباء كذلك بل معظمهم. هنا قد يقوم شابّان ليسأل أحدهما: إذا كانا راضيين، فسواء أخبرتهم أم لم أخبرهم، فالرِّضى موجود ومتحقِّق، ولا داعي لتأكيده. وقد يقول الثاني: أنا أعرف معارضتهما سلفاً، فلماذا أُتعِب نفسي وأُتعِبهما بخبرٍ غير سعيد بالنسبة لهما؟ إنّنا كأبناء وكبنات ننسى في كثير من الأحيان أنّنا ننتمي لأسرة، وأنّنا أعضاء مُهمّون فيها، وأنّ ما يصيبنا يصيبها في الخير وفي الشرّ، ولسنا في (فندق) نبيتُ فيه ليلاً، و(مطعم) نأكل فيه نهاراً، وأنّ الشخصين المعنيين بخدمتنا يمارسان الخدمة الإلزاميّة رغماً عنهما، وانتهى الأمر. إنّنا مهما كبرنا وتطوّرنا وارتقينا في سُلّم الحياة، فإنّنا لن نجد أحضاناً أرحم من أحضان والدينا، ولا قلوباً أشفق علينا من قلوبهما، فماذا نبخل عليهما بابتسامة سعادة لنجاح حقّقناه، أو دمعة أسف لخطأ ارتكبناه؟ هل كثيرٌ عليهما أن يعرفا ماذا يحصل لي – من خير أو شرّ – وقد أنفقا عمريهما لأكون كما أنا؟ فلماذا أتركهما كالزّوج المخدوع آخر مَنْ يعلم؟ هل هذا من الوفاء؟ هل هكذا ربّياني؟ هل هذا هو ما يُرضي الله الذي أوصاني بالإحسان إليهما؟!   5- الإستعانة بغيرهما: مرجعيّتنا الأُولى.. ملاذنا الأكبر بعد الله تبارك وتعالى هم أسرتنا، وعلى رأسها أبوانا، فإذا خيّبا ظنوننا لسببٍ أو لآخر، فليسَ من الضروري ولا من الملازمة أن يخفقا دائماً في إسعادنا ونجدتنا، ومع فرض أنّهما لم يوفّقا، فإنّنا حينها نكون معذورين في البحث عن مرجعية أخرى، ولا ننس أنّ معونة أبوينا في الحاجات المادِّية والمعنويّة، بلا منّة ولا أذى، وأنّهما مخلصان في المشورة، وأنّهما يرشدان إلى ما هو خير. إنّنا كأبناء لا نُقدِّر أحياناً الخسائر الكبيرة التي تلحقنا جرّاء (زهدنا) بوالدينا أو بالجروح النفسيّة التي نتركها في وجدانهم بتخلِّينا عنهم أو عدم اهتمامنا برأيهم.   6- الإستهانة بمخاوفهما: الأُمُّ تصف أولادها وتقول: هم دنياي التي أعيشها، والأب يتحدّث عن أبنائه ويقول: هم أعزّ ما أملك، وإذا بنا كأبناء وكبنات لا نُقدِّر لهم ذلك أحياناً، فنحنُ نخرج متى نشاء، ونتأخّر كما نشاء من غير أن نتذكّر أنّ هناك مَن يقلق علينا، ويبقى ساهراً لا يغمض له جفن في انتظارنا، ويتوقّع بين الحين والآخر مكالمة هاتفيّة تُطمئنه عنّا، وقد تذهب به الظّنون والمخاوف بعيداً، وإذا سُئلنا نجيب ببرود أعصاب: ولماذا القلق؟ لَم نعد صغاراً، لا داعي للخوف.. ولأنّنا لسنا كَهُم، فإنّنا لا نستطيع أن نُقدِّر مدى القلق والخوف اللّذين ينتاباهما عند حصول طارئ يخصّنا، أليسَ الأجدر بدل الاستهانة بمخاوفهما أن لا نثير مخاوفهما؟ وبدلاً من أن نزرع القلق في قلوبهما، نزرع الطمأنينة ونشيعها في نفوسهما، ولا يتطلّب الأمر أكثر من إخبار أو طمأنة أو تبادل رأي. لنتذكّر أنّنا سنكون في مكانهما يوماً ما، هل نرتضي لأنفسنا أن يُعاملنا أبناؤنا كما نُعامل آباءنا ووالدينا ببرود وجفاء؟!   7- عدم التقيّد بتعليمات الأسرة: لكلِّ أسرة نظامها الداخلي غير المكتوب، لكنّه متسالَمٌ عليه ويعرفه الصغير والكبير فيها من خلال ما درجت عليه في حياتها اليوميّة وتأريخها الطويل، والخروج عليه ليس خروجاً على قانون إلهي أو حكومي نستحقّ عليه العقوبة، ولكنّ احترام النظام دليل على احترام الإنسان لنفسه وللآخرين. فأن تسافر العائلة ويتخلّف أحد أفرادها لا لسبب معقول، بل لأنّه يرفض أن يصاحبها، تعكير لصفو السفرة ومزاج المسافرين، وأن يرفع أحدهم صوت التلفاز والآخرون يدرسون أو بعضهم نائم، هو إخلال بنظام الراحة والاستجمام في البيت، الذي يشاركنا فيه غيرنا، أو السهر خارج البيت والبقاء لساعة متأخِّرة إقلاق لراحة الأسرة كلّها.. وهكذا. نظام الأسرة هو لسعادة وراحة الأسرة كلّها، وكما لا يجوز للمواطن الإخلال بالأمن العام، لا يجوز لي كفرد في أسرة أن أخلّ بنظامها العام بسبب من فرديّتي وأنانيّتي أو استعلائي أو تغافلي أو تهاوني. أم أنّ نظام الأسرة قابل للخَرْق والتجاوز، لأنّ العقوبات فيه أخفّ، أو أنّها غير موجودة أصلاً بسبب ما يحكم الأُسرة من مودِّة ورحمة؟!►

ارسال التعليق

Top